كسر الاحتكار.. كيف تعيد الشمس رسم خريطة "عدالة الطاقة" في إفريقيا؟
كسر الاحتكار.. كيف تعيد الشمس رسم خريطة "عدالة الطاقة" في إفريقيا؟
يكشف التحول المتسارع نحو الطاقة الشمسية الرخيصة في إفريقيا عن مسار جديد لإعادة تعريف الحق في الكهرباء بوصفه مدخلًا مباشرًا لجملة من الحقوق الأساسية، في مقدمتها الحق في الصحة والعمل والتعليم والعيش الكريم.
ويوضح هذا التحول كيف أصبحت الطاقة، التي طالما شكّلت أحد أبرز مظاهر التفاوت العالمي، ساحة اختبار حقيقية لقدرة القارة الإفريقية على تقليص فجوة الحقوق بين من يملكون الكهرباء ومن يُحرمون منها.
ويعرض تقرير لصحيفة "نيويورك تايمز" نموذجًا يوميًا لهذا التحول من خلال تجربة طبيب أسنان في كيب تاون، يدعى عصمت بولي، الذي واجه قبل سنوات أزمة مباشرة مع انقطاع التيار الكهربائي أثناء استقبال مرضاه.
ويشرح التقرير أن انقطاع الكهرباء لم يكن مجرد إزعاج تقني، بل كان يعني توقف الأشعة السينية، وتعطّل حشو الأسنان، واستحالة إجراء علاجات الجذور، وهو ما عبّر عنه الطبيب بقوله: "لم أكن أستطيع العمل ببساطة".
يبرز هذا المثال البسيط كيف تتحول الكهرباء من خدمة عامة إلى شرط لازم لممارسة الحق في العمل والحق في الصحة، ويكشف في الوقت نفسه هشاشة الأنظمة الطاقية التقليدية التي اعتمدت لعقود على محطات الفحم العملاقة.
كسر الاحتكار الطاقي
يصف التقرير التحول الجاري بأنه انتقال نوعي من حلول شمسية بدائية إلى أنظمة متكاملة باتت تُستخدم في مصانع السيارات، ومناجم الذهب، ومصانع النبيذ، ومراكز التسوق، وليس فقط في المنازل أو القرى النائية.
ويوضح التقرير أن هذا التحول لم يكن بطيئًا، إذ ارتفعت حصة الطاقة الشمسية في جنوب إفريقيا من الصفر تقريبًا عام 2019 إلى ما يقارب 10% من قدرة توليد الكهرباء.
يفسّر هذا التوسع كيف تراجع الاعتماد الكامل على محطات الفحم التي شكّلت العمود الفقري للكهرباء لأكثر من قرن، وهو ما أجبر شركة الكهرباء الوطنية المتعثرة "إسكوم" على إعادة التفكير في نموذج أعمالها مع تراجع الإيرادات.
ويصف مدير المشروع في منظمة "الطاقة المستدامة في إفريقيا، جويل نانا، هذا التحول بأنه "حركة شعبية" لكسر نظام مختلّ طال أمده، مؤكدًا أن القارة عاشت طويلًا مع كهرباء غير موثوقة أو باهظة أو معدومة تمامًا.
ويربط هذا الوصف بين الطاقة الشمسية والحق في التحرر من أنماط الحرمان التاريخي، حيث لم تعد الكهرباء امتيازًا حكوميًا بل أداة مقاومة اقتصادية واجتماعية.
الدور الصيني
يكشف تقرير "نيويورك تايمز" أن مفتاح هذا التحول القاري يكمن في طموح الصين لريادة العالم في الطاقة النظيفة، في وقت كثّفت فيه الولايات المتحدة صادرات الوقود الأحفوري.
يوضح التقرير أن الشركات الصينية باتت تصنّع معظم الألواح الشمسية والبطاريات والمركبات الكهربائية في العالم، ما أدى إلى خفض الأسعار والبحث عن أسواق جديدة.
يشير التقرير إلى أن إفريقيا، حيث يفتقر نحو 600 مليون شخص إلى الكهرباء المنتظمة، أصبحت وجهة رئيسية لهذه الصادرات، إذ ارتفعت واردات الطاقة الشمسية من الصين بنسبة 50% خلال الأشهر العشرة الأولى من عام 2025، وفق تحليل بيانات الصادرات الذي أجرته مجموعة "إمبر" البريطانية.
يعدد التقرير أمثلة لانتشار هذه الواردات، حيث استوردت سيراليون ما يعادل أكثر من نصف قدرتها الحالية على توليد الكهرباء، بينما استوردت تشاد ما يقارب النصف، ما يبرز حجم التحول وأبعاده الجيوسياسية.
ويوضح أنشطة شركة "باور تشاينا" المملوكة للدولة، التي تبني محطات شمسية واسعة النطاق في جنوب إفريقيا، وتنافس على عقود إضافة 14 ألف كيلومتر من خطوط النقل، وهي مشاريع تُقدّر كلفتها بنحو 25 مليار دولار.
تنقل نائبة وزير الكهرباء والطاقة في جنوب إفريقيا، سامانثا غراهام-ماري، اعترافًا صريحًا بغياب التمويل المحلي، قائلة: "من الواضح أننا لا نملك المال اللازم لذلك"، قبل أن يُطرح السؤال الحاسم: من يملكه؟ الصين.
العدالة في الوصول للكهرباء
من جانبها فتحت مجلة "الإيكونوميست" في تحليل لها زاوية مغايرة، معتبرًا أن أزمة الكهرباء في إفريقيا ليست فقط أزمة عرض، بل أزمة طلب أيضًا، حيث يوضح التحليل أن تسعير الكهرباء يضع الأسر الفقيرة أمام معادلة مستحيلة: أسعار مرتفعة تمنع الاستهلاك، أو أسعار منخفضة تثني المستثمرين عن بناء البنية التحتية.
ويضرب التحليل أمثلة رقمية صارخة، مشيرًا إلى أن نيجيريا، ذات الـ240 مليون نسمة، تنتج كهرباء أقل من ولاية وايومنغ الأمريكية التي لا يتجاوز عدد سكانها 600 ألف، بينما تنتج أوغندا أقل من لاتفيا.
ويؤكد أن نحو 600 مليون إفريقي لا يحصلون على الكهرباء إطلاقًا، وهو حرمان يحرم الأطفال من الدراسة ليلًا، ويقوّض الرعاية الصحية، ويكبح النمو الاقتصادي.
وينقل التحليل عن مدير في شركة توزيع خاصة في نيجيريا قوله إن التعريفات هي أساس جذب الاستثمار، لكن هذه التعريفات، رغم ارتفاعها مقارنة بدول فقيرة أخرى، لا تزال غير كافية لتغطية التكاليف.
ويشير إلى أن الأغنياء يستهلكون معظم الكهرباء ويمكنهم الدفع، بينما لا يستطيع ملايين الأفارقة تحمّل تكلفة الطاقة الحديثة، إذ تشير تقديرات وكالة الطاقة الدولية إلى أن 220 مليون شخص لا يستطيعون دفع ثمن طاقة تكفي حتى لشحن هاتف وراديو.
موارد الطاقة الشمسية
تسلّط وكالة “أسوشيتد برس” الضوء على التناقض الصارخ بين إمكانات إفريقيا الشمسية وحجم الاستفادة الفعلية منها، موضحة أن إفريقيا تمتلك 60% من أفضل موارد الطاقة الشمسية في العالم، لكنها لم تحصل سوى على 2% من الاستثمارات العالمية في الطاقة النظيفة عام 2024.
تشرح الوكالة تفاصيل مشروع "كي إتش آي سولار ون" في مقاطعة كيب الشمالية، الذي ينتج 50 ميغاواط من الكهرباء تكفي لأكثر من 40 ألف منزل، بوصفه نموذجًا لما يمكن أن تحققه الطاقة الشمسية إذا توفّر الاستثمار.
تذكر الوكالة أن قدرة الطاقة المتجددة المركبة في إفريقيا لا تتجاوز 1.5% من الإجمالي العالمي، رغم التزام القادة الأفارقة في قمة المناخ برفعها إلى 300 جيغاواط بحلول 2030.
وتورد بيانات "إمبر" التي تشير إلى ارتفاع واردات الألواح الشمسية الصينية إلى 15032 ميغاواط خلال عام واحد، بزيادة 60%، مع تسجيل 20 دولة إفريقية أرقامًا قياسية في الاستيراد.
عدالة ناقصة
يختتم تقرير "نيويورك تايمز" الصورة بتسليط الضوء على الفجوة الاجتماعية داخل هذا التحول، موضحًا أن أفقر المواطنين لا يستطيعون تحمّل تكلفة تركيب أنظمة الطاقة الشمسية، ويفتقرون إلى النقد والقروض.
ويعرض التقرير مثال صاحب خدمة توصيل الدراجات في لانغا، كولين مكوسي، الذي يعتمد جزئيًا على لوحة شمسية متبرع بها، لكنها لا تكفي لتشغيل دراجاته الكهربائية، حيث يوضح هذا المثال أن التحول الطاقي، رغم اتساعه، لا يزال غير عادل في توزيع ثماره، ويُعيد طرح سؤال الحقوق: هل تتحول الطاقة الشمسية إلى أداة مساواة، أم إلى امتياز جديد لمن يملكون القدرة على الدفع؟
ويعود التقرير إلى تجربة طبيب الأسنان عصمت بولي، الذي سدد تكلفة نظامه الشمسي خلال أقل من أربع سنوات، وخفّض فواتيره إلى الخُمس، مؤكدًا أن الطاقة الشمسية أزالت أحد أكبر مخاوفه مع اقتراب التقاعد: العجز عن تحمّل تكلفة الكهرباء.











